التأمل في مسألة: “الاختلاف المذهبي بين السنة والشيعة، وهل يمنع من دعم إيران إذا كانت تقاوم الظلم وتناصر قضايا المسلمين” ؟

بقلم : ترتيل إبراهيم
دعنا نبدأ من الأصل لا من الفرع،من العقيدة لا من السياسة،من التوحيد لا من الاصطفاف الطائفي.
هذا المقال لا يدعو إلى إهمال المسائل العقدية ،لكننا ندعو إلى ترشيد (ترتيب)الإختلافات، وعدم خلط الأوراق بين المعركة مع الظالمين، وبين الإختلافات بين المسلمين، وأيضاً أحاول أن أنقّب في المقولات المكررة، والشعارات الجاهزة، والتأكيدات المتوارثة التي طالما كانت سببًا في تفتيت الصف الإسلامي، ومصدرًا سهلًا لبث روح العداء والتنافر بين أبناء الأمة الإسلامية.
حين نقرأ القرآن، نجد أنه لا يضع معيار الولاء والبراء على الانتماء المذهبي الضيق، ولا يزن الرجال بمقدار قربهم من صيغتنا الفقهية أو الفروعية، بل يزنهم على أساس الوقوف مع الحق، ونصرة المظلوم، ومواجهة الطغيان. تأمل قوله تعالى:
{وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان…}
فهنا المعركة ليست مذهبية، بل معركة بين الطغيان والاستضعاف، بين الجبروت والحق، بين الظلم الرباعي عالميًا والكرامة الإسلامية المهضومة.
ولكننا اليوم نُبتلى بميزانين متناقضين:
ميزان عقدي صارم في وجه كل من يخالفنا في بعض الفروع، ولو كان في الصف الأول من مواجهة الصهيونية والاستكبار.
وميزان مائع في وجه من يعانق إسرائيل جهارًا نهارًا، ويصمت عن غطرسة أمريكا، فقط لأنه يرفع ذات رايتنا الطائفية.
فأين هنا ميزان القرآن؟ وأين هنا ميزان النبي ؟ وأين هنا الفقه الذي يخاف الله، لا فقه الهوى والانحيازات السياسية المتقنعة بثوب السُّنة؟
هل الاختلاف العقدي بين السنة والشيعة حقيقي؟ نعم.
ونجده حاضراً في مسائل الإمامة، والعصمة، والتأويل.
ولكن، هل هذا يوجب هدر كل قضايا الأمة؟
هل إذا وافقك خصمك المذهبي على مقاومة عدو مشترك، يجب أن تتخلى عن العدو المشترك وتقاتل خصمك؟!
هذا خلل في ترتيب العداوات، وإختلال في فقه الأولويات.
فقد جمع الله بين أهل الكتاب والمسلمين في وجه الوثنية، رغم الخلاف العقدي العميق، وقال:
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَىٰ كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}
فكيف لا يُجمع بين مسلمين يختلفون في الفروع والأصول، لكنهم يتفقون في مناهضة الصهيونية وتحرير المسجد الأقصى، وإن اختلفوا في قراءة القنوت أو صيغة الآذان؟!
تأمل موقف الصحابة في صلح الحديبية:
لقد تحالف النبي صلى الله عليه وسلم مع خُزاعة، رغم أنهم لم يكونوا على ملة الإسلام، بل على الوثنية، وذلك لأنهم كانوا ضد قريش في المعركة السياسية الظالمة على الدعوة المحمدية.
فإذا جاز التحالف السياسي مع مشركين من أجل دفع الظلم، فكيف يُحرَّم اليوم دعم دولة مسلمة، فقط لأن مذهبها يختلف عن مذهب جمهور أهل السنة؟
نجد القرآن يحدثنا عن الروم – وهم من أهل الكتاب – فيقول:
{غُلِبَتِ الرُّوم * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ * وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ}
ثم يقول: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ}.
لقد فرح المسلمون بانتصار الروم على الفُرس، لأن الفُرس كانوا أكثر بعدًا عن التوحيد، رغم أن الروم ليسوا مسلمين، ولكنهم أقرب إلى الموحدين، وأعداؤهم أشد كفرًا.
فهل نعي نحن اليوم هذا المعنى؟
إذا جاز أن يفرح المسلم بانتصار أهل الكتاب على مشركين، فكيف لا يُبصر حكمة أن يفرح بانتصار مسلم مخالف على عدو صهيوني محتل؟!
فالعقل الواعي، والفقه الرباني، لا يخلط بين المذاهب والميادين، بل يُنزل كل موقف منزلته، ويزن الناس بقدر نصرتهم للحق لا بمدى تشابه طقوسهم معنا.
ومن يقرأ التاريخ بعين الإنصاف، يرى أن الأمة الإسلامية كثيرًا ما استعانت بغير المتفق معها دينيًا أو مذهبيًا في قضايا دفع العدو.
فتحالف صلاح الدين مع طوائف لم تكن سنية خالصة، وجمعت الدولة العباسية بين مذاهب، وواجهت التتار بصدر واحد.
هل الكيان يستهدف جميع المسلمين؟ نعم، شرعًا وواقعًا
من جهة العقيدة اليهودية:
الفكر الصهيوني قائم على عنصرية دينية ترى أن “غير اليهود” أدنى منزلة، وأن أرض فلسطين “وعد إلهي” لهم.
التوراة المحرّفة تصف غير اليهود بأنهم “غوييم” أي بهائم تخدم بني إسرائيل.
من جهة الواقع السياسي:
الكيان الصهيوني تحالف مع أنظمة وظيفية في العالم الإسلامي لإضعاف الشعوب وتجفيف روح الجهاد والدين.
لم يسلم بلد مسلم من التجسس، أو التخريب، أو الغزو الإعلامي، أو التخطيط ضد وعيه.
غزة مثال، لكنها ليست الوحيدة:
مخيمات اللاجئين في لبنان وسوريا.
اغتيالات العلماء في إيران وماليزيا والعراق وتونس.
دعم الحركات الانفصالية في السودان والجزائر ” فقد تم توظيف الاختلافات المذهبية والعرقية والإثنية بشكل ممنهج، لا فقط بين السنة والشيعة، بل حتى داخل المذهب الواحد، وعلى مستوى الدولة القُطرية، بل حتى على مستوى مفهوم الأمة الإسلامية ذاته، حيث زُرعت الحواجز النفسية والتاريخية بين شعوب الأمة باسم التاريخ والجغرافيا والسيادة القومية.
دعم إيران: فقه سياسي أم انزلاق عقدي؟
هنا يجب التفريق.
نحن لا نُبرئ إيران من الأخطاء، ولا نُقدس نظامها السياسي،
لكننا بالمقابل لا يمكن أن نغفل عن أنها الدولة الوحيدة التي تعلن دعمها الصريح للمقاومة الفلسطينية، وتسلّحها، وتدفع من اقتصادها المتعب في سبيل مواجهتها لإسرائيل وأمريكا.
وفي ميزان العدل الرباني:
“ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى.”
فهل العدل أن نمدح دولًا تطبع مع العدو وتفتح سفاراته، ونذم دولة تسلح من يقاتل العدو؟
هل العدل أن نبارك لمن يخذل غزة، ونخون من يدعمها؟
هل العدل أن نُهدر دماء المجاهدين لأنهم شيعة، ونبرر خيانة من يرفعون شعار “أهل السنة” لكنهم حلفاء تل أبيب وواشنطن؟
وكما أسلفت الذكر هناك من قَبِل دعم أمريكا، واحتلال قواعدها، وصفقاتها، وفتحت سفارات إسرائيل في عواصمه، فقط لأنه من أهل السنة، هل هو أولى بالمؤازرة من من دعم غزة بالسلاح رغم اختلافه العقدي؟
نحن لا نقدّم الولاء بحسب الانتماء، بل بحسب الوقوف مع قضايا الأمة.
{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، لا أكثرهم ترديدًا لعبارات أهل السنة، بل أصدقهم في نصرة أهل السنة حيث يُذبحون وتُحاصر دماؤهم.
الخلاصة الأخروية:
المعركة اليوم ليست معركة طوائف.
هي معركة من يقف في صف الله، ومن يقف في صف الطاغوت.
وإن كان الطاغوت يلبس دشداشة بيضاء ويؤم المصلين في الحرم، لكن يُرسل المال للعدو ويخنق غزة، فهو عدوّ لله وإن تسمّى بأهل السنة.
وإن كان من يقاوم باسم ولاية الفقيه، لكنه يدفع السلاح لأهل بيت المقدس، فهو في هذه الجزئية قد وافق الحق، والله يحكم بين عباده.
وختامًا، فلنُعد ترتيب أولوياتنا:
فإن كنا نحب الله ورسوله، فالمعركة الأولى هي مع الظلم لا مع المذهب.
وإن كنا نغار على التوحيد، فلنبدأ بتحرير قبلة المسلمين من أعدائهم، ثم نفتح الحوار مع المختلفين في فروع الاعتقاد.
أما أن نترك الأقصى يحترق لأن راية من يحميه لا تعجبنا؟! فذاك خلل عقدي لا فقه مذهبي.
وتوحيد صفوف المجاهدين في وجه العدو، واجب شرعي مقدم على الإنشغال بالتفاصيل الفرعية والنقاشات المذهبية في وقت المعركة ..
لسنا في مقام تمييع العقيدة، ولا تبرير الانحرافات، بل في مقام بيان أن دعم المظلوم لا يلزم منه تزكية مذهبه، وأن نصرة المجاهد لا تعني السكوت عن باطله، ولكن لا يجوز أن نخلط بين الخلاف المذهبي، ومعركة الأمة الكبرى مع عدوها.
إن أصبت من الله ،وإن أخطات فمني ..
والله من وراء القصد، وهو يهدي السبيل.
